في الذكرى السنوية الأولى لعملية "طوفان الأقصى"، التي أعلنت إسرائيل بعدها "حربًا وجوديّة" ضدّ الشعب الفلسطيني، ودخل "حزب الله" على خطّها من خلال ما سُمّيت بـ"جبهة الإسناد"، منعًا للاستفراد بغزة، أصدر الحزب بيانًا دافع فيه عن قراره باعتباره تموضعًا "إلى جانب الحق والعدل والإنسانية"، مؤكدًا "الثقة بقدرة المقاومة على صدّ العدوان، وبالشعب على الصبر والصمود والتحمّل حتى زوال هذه الغمّة"، رغم الأثمان الباهظة التي دُفِعت.
وفي اليوم التالي، خرج نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، في كلمة متلفزة هي الثانية له منذ اغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، بدا أنّ عنوانها الأساسي تقاطع مع كلمته الأولى، وهو "رفع معنويات" الجمهور، الذي لا يخفى على أحد إصابته بنوعٍ من الإحباط، وربما الاستسلام، نتيجة الضربات المؤلمة التي تعرّض لها الحزب، فضلاً عن كلفة النزوح القاسية، في ظلّ المشاهد المفجعة المنتشرة على الطرقات.
وإذا كان "حزب الله" ختم بيانه بمعادلة "ولّى زمن الهزائم وجاء نصر الله"، فإنّ الشيخ قاسم أعاد صياغتها بصورة أو بأخرى حين قال إنّ "إسرائيل لن تحقق أهدافها وسنلحق بها الهزيمة"، لافتًا إلى أنّ المقاومة ستكبّد الجانب الإسرائيلي "خسائر كبيرة ستكون مقدّمة لإنهاء الحرب"، فإنّ هدف "رفع المعنويات" بدأ قبل ذلك في التكتيك "الإعلامي" الذي يعتمده الحزب، والذي غابت معه منذ نحو أسبوعين بيانات "النعي" التي دأب على إصدارها منذ عام.
وبموازاة البعد "النفسي" في سردية "حزب الله" المستجدّة، والذي قد يكون جانب منه مرتبطًا بالحرب "النفسية" القائمة مع الإسرائيلي، لا العسكرية وحسب، فإنّ السياسة لا تبدو غائبة، وقد لفت في كلام الشيخ قاسم مثلاً حديث واضح عن وقف إطلاق النار، بل انفتاح عليه، من باب تأييد الحراك السياسي الذي يقوده رئيس مجلس النواب نبيه بري، أو "الأخ الأكبر"، ولو أضاف إليه بندًا ثابتًا، قوامه أنّ "لا محلّ لأي نقاش قبل وقف إطلاق النار".
في المبدأ، يقول العارفون إنّ البعد "النفسي" لأداء "حزب الله" أكثر من واضح في هذه المرحلة، ليس فقط لمحاولة "طمأنة" الجمهور على القدرات العسكرية للمقاومة، ولكن أيضًا في مسعى لـ"احتواء" الخيبة التي ترتّبت على الاغتيالات "النوعية" التي نفذتها إسرائيل، وبلغت "أوجها" مع اغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، وأكملتها باستهداف "خليفته المرجّح" السيد هاشم صفي الدين، الذي لا يزال للمفارقة مصيره مجهولاً، وسط غموض كبير.
في هذا السياق، يقول العارفون إنّ قيادة "حزب الله"، أو ما تبقّى منها، تدرك جيّدًا أنّ البيئة الحاضنة المؤيّدة للمقاومة تأثّرت سلبًا بكلّ ما جرى في الأسابيع الأخيرة، وشعرت أنّ الأمور خرجت عن السيطرة بصورة أو بأخرى، خصوصًا بعد اغتيال السيد نصر الله، الذي كان يُعتقَد على نطاق واسع أنّه محصَّن، وأنّ إسرائيل لن تجرؤ على المساس به، فإذا بردود الفعل على اغتياله الذي لا يزال كثيرون رافضين لتصديقه، تبدو "باردة" مقارنة مع حجم الحدث.
أكثر من ذلك، فإنّ قيادة "حزب الله" بحسب ما يقول العارفون، تدرك وجود "نقمة" لدى الكثير من المؤيدين، وبما الملتزمين ولو بصورة أقلّ، ليس فقط على المرجعية الإقليمية، أي إيران، التي لم تقدّم "الإسناد" المطلوب بالحدّ الأدنى، حتى إنّها كانت تفاوض على اتفاق نووي في عزّ العدوان، ولكن أيضًا على قيادة الحزب، التي يرى البعض أنّها ارتكبت أخطاء "جسيمة" في الحسابات والتقديرات، أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
وبالحديث عن هذه الحسابات الخاطئة، يتذكّر الكثيرون كيف أنّ "حزب الله" بقي حتى اللحظة الأخيرة، وحتى ما بعد "مجزرة البيجر"، يتعامل مع الضربات الإسرائيلية وكأنّها "موضعية"، ويضبط ردود فعله عليها، على طريقة عدم الانزلاق إلى حرب، حتى إنّه كان يفصّل ردوده على الاغتيالات النوعية في صفوفه، على مقاس عدم إعطاء إسرائيل "ذريعة" الحرب، بل إنّ مسؤولي الحزب كانوا شبه واقفين بأنّ إسرائيل "لن تفعلها".
لكلّ هذه الأسباب، يقول العارفون إنّ الحزب يتعمّد في مجمل أدائه وتكتيكاته، "تصويب" هذه الصورة الذهنية، وطمأنة الجمهور، بأنّ إسرائيل التي كسبت ربما "جولة" أو أكثر، لم تربح "الحرب"، وأنّ العبرة تبقى في الخواتيم، رغم الكلفة الباهظة، علمًا أنّ كثافة البيانات العسكرية التي يصدرها الحزب تلعب دورًا جوهريًا في التأكيد على هذه النقطة، وفق قاعدة أنّ الحزب لا يزال قادرًا على "إيلام" الإسرائيلي، بعكس البروباغندا التي يروّجها الأخير عن "تآكل" قدراته.
وبموازاة العمل على طمأنة الجمهور، وتأكيد صلابته ومتانة قدراته، وتخطّيه كلّ الاغتيالات، عبر ملء كلّ المواقع التي شغرت ببدلاء يمتلكون كلّ ما كان لدى القادة، كما قال الشيخ قاسم في كلمته الأخيرة، جاء حديث الحزب "المقتضب" في السياسة، حول تأييد الحراك السياسي لرئيس مجلس النواب نبيه بري، ولكن أيضًا رفض أيّ نقاش قبل وقف إطلاق النار، وهو ما سأل كثيرون عمّا إذا كان ينطوي على "ازدواجية أو تناقض" في مكانٍ ما.
في هذا السياق، يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله" إنّ الأخير "منفتح" على وقف إطلاق النار الذي يتمّ الحديث عنه، وليس رافضًا له بالمُطلَق، وقد يكون ما سُرّب عن أنّ الأمين العام السابق للحزب السيد حسن نصر الله كان موافقًا عليه من حيث المبدأ، نوعًا من التمهيد لمثل هذا السيناريو، ولكنهم يشيرون إلى أنّ الحزب لن يقبل في الوقت نفسه، تصوير انفتاحه هذا، على أنّه "خضوع" في أيّ مكان لشروط إسرائيلية يبدو أنّها أصبحت بلا أفق.
ويوضح هؤلاء أنّ الحزب يدرك أنّ أيّ قبول بوقف "مشروط" لإطلاق النار، لن يكون لا في مصلحته ولا مصلحة لبنان، علمًا أنّه بدأ يتلمّس في بعض الأوساط الداخلية محاولة للتعامل معه كأنّه "مهزوم"، أو ربما رهانًا على ذلك لتغيير بعض موازين القوى، وهو ما يقول إنّه سيتصدّى له بطبيعة الحال، في وقتٍ يقول البعض إنّ تغييبه الحديث الصريح عن "الترابط" بين جبهتي لبنان وغزة للمرة الأولى، قد يكون مؤشّرًا مهمًا يمكن البناء عليه.
وفي السياق، يشدّد العارفون بأدبيّات الحزب على أنّ موقفه واضح ولا تناقض فيه، فهو منفتح على الجهود التي يقودها رئيس مجلس النواب للوصول إلى وقف إطلاق النار بالطرق الدبلوماسية، ولكنه في الوقت نفسه، جاهز لاستكمال المسار العسكري في الميدان حتى النهاية، ولن يرفع الراية البيضاء، ولعلّ ما قاله الشيخ قاسم يعزّز هذا الاعتقاد، لجهة أنّ "الميدان يحسم إن تابع العدو حربه"، وأنّ "هذه حرب من يصرخ أولاً.. ولن نصرخ"!.